- Advertisement -

- Advertisement -

مطبعة عمشيت مستمرة باللحم الحي: الحبر لن يجف في لبنان رغم الأزمات

 الأنباء جويل رياشي



«القاهرة تكتب، بيروت تطبع وبغداد تقرأ». مقولة قديمة للأديب المصري طه حسين عن تشابك جهود البلدان الثلاثة لتشكيل مشهد ثقافي متكامل. اليوم، تغيب الإحصاءات والأرقام والدراسات الموثقة لمعرفة واقع الكتابة والطباعة والقراءة في العالم العربي. ولكن بإمكاننا القول ان الجزء اللبناني من المقولة مستمر بأوجه مختلفة واحيانا «باللحم الحي».

لم تخرج بيروت من دائرة الطباعة، وهي حرفة عرفها لبنان منذ 1890 مع «مطبعة صادر»، الأقدم طباعيا في العصر الحديث، وقبلها مع مطبعتي مار مطانيوس قزحيا في شمال لبنان، ودير مار يوحنا الخنشارة في المتن الشمالي التي طبعت أول كتاب بالأحرف العربية.

كان من الطبيعي ان تتحول حرفة الطباعة الى مهنة عائلية يرثها الأبناء عن الآباء، فتستمر لدى البعض وتتوسع وتكبر من جيل إلى جيل. إلا ان اللافت في شوارع بيروت وبينها شارع لبنان في الأشرفية قرب دير الآباء اليسوعيين، حيث تنتشر فروع عدة لجامعة القديس يوسف، انتشار مطابع صغيرة عدة وأخرى كبيرة قديمة، شكلت مادة لرواية الراحل جبور الدويهي «طبع في بيروت» علما ان الاسم الأول للرواية حمل عنوان «مطبعة كرم إخوان»، قبل ان يختار شقيق الدويهي أنطوان الاسم النهائي للرواية.

المطابع الصغيرة شكلت مورد رزق لعائلات، وانتشرت في غالبية المناطق اللبنانية فبلغ عددها في أواسط التسعينات 700، صمد القسم الأكبر منها، وغاب آخر لدواع عدة بينها الأزمة الاقتصادية وانهيار قيمة العملة الوطنية، وتبدل أحوال التجارة مع المحيط العربي.

وسط الانهيار، استمرت مطابع بمنزلة علامات للمناطق تعكس صورة عن بلد انتصر لـ «ثقافة الورق» على رغم الأكلاف القياسية لأسعاره كونه مستوردا. بين هذه المطابع واحدة من اثنتين في بلاد جبيل، وتحمل اسم بلدة عريقة على الساحل المتوسطي «مطبعة عمشيت» والتي أضيف اليها اسم مؤسسها ميشال نصار ابن مدينة الأشرفية البيروتية وصهر عمشيت.

يعود تأسيسها في الساحة القديمة التي تحمل حاليا اسم ساحة الجيش اللبناني الى عام 1962. وهي الثانية لنصار بعد أولى امتلكها شراكة في منطقة النهر ببيروت (قرب الأشرفية)، ثم ترك المطبعة العمشيتية الى ابنه نبيل المجاز في الحقوق والذي دخل عالم الطباعة لـ«ظروف عائلية»، في طليعتها التحاق الوالد بفوج إطفاء بيروت الذي بلغ فيه منصب رئيس هيئة الأركان.

يتحدث نبيل نصار بزهو عن المطابع ومهنة الطباعة في لبنان، مصرا على ان التطور التكنولوجي لم ينل من عالم الطباعة، ويضرب مثلا على قدرة محدودة لـ «البرينتر» في إنتاج الأوراق المطبوعة، «وهي لم تغلب آلة الطباعة التي تطورت وفقا لمجريات العصر».

ويتناول تراجع إنتاج الكتاب «إذ بتنا مضطرين الى استيفاء مقدم بنسبة 90% من الفاتورة لتأمين سعر الورق، بعدما كنا نطبع دون مقابل في انتظار التحصيل بعد البيع».

ويقول ان المطابع الورقية وهي غير الحريرية التي تطبع أشياء صناعية، تعتمد على زبائن تجاريين يطبعون دفاتر وفواتير تحصيل خاصة بمؤسساتهم. «وقد عملنا بمنزلة وكلاء طباعة لمصانع أدوية كبرى ومؤسسات مركزها في مصر والعراق والسودان وأريتريا، وطبعنا مئات الآلاف من كتب القرآن. إلا ان ظروف المنطقة وفي طليعتها حرب الخليج الثانية، حرب تحرير العراق، أثرت على زبائننا الخارجيين، فضلا عن تطور الطباعة في المملكة العربية السعودية حيث توافرت آلات حديثة خاصة بالطباعة، الى تحول مطابع محلية كبرى نحو السوق الداخلية بعد فقدان زبائن خارجيين (…)، كل ذلك جعلنا نحن أصحاب المطابع الصغيرة نحصر أعمالنا في مهمات تلائم ظروفنا المحلية وقدراتنا الإنتاجية والتسويقية. استمررنا لأن المهنة لم تمت، لكن غالبية المطابع العائلية ستتوقف عند جيل معين لتركيز الجيل الجديد على مهن أخرى وعلى تأمين فرص عمل في الخارج تتناسب ومؤهلاتهم العلمية».

يشير نصار إلى آلة طباعة متطورة من طراز «أوفست» يعرضها للبيع «بسبب تراجع إنتاج الكتب لأسباب عدة بينها امتلاك إحدى المطابع الكبرى حقوق استيراد الورق، فلا نستطيع منافستها في تقديم عروض للزبائن». في هذا الإطار، تجدر الإشارة أيضا إلى كثافة المطابع في بلدة درعون الكسروانية قرب مزار سيدة لبنان في حريصا، والتي يناهز عددها الـ 30، إلى انتشار المطابع في المدينة الصناعية في منطقة الجديدة – البوشرية – السد بالمتن الشمالي، وفي ضاحية بيروت الجنوبية. ولا يخفى على أحد أن الانهيار المالي أصاب المهنة بأضرار عجزت عنها الحرب.

ويتحدث نصار عن مطبعته العائلية في البلدة المشهورة ببيوتها التراثية وباستضافتها للمستشرق ارنست رينان وباحتضانها قبر شقيقته هنريات على بعد أمتار من «مطبعة عمشيت». يختصر صورة المطابع القديمة الصغيرة «بوجه أساسي من يومياتنا اللبنانية، حيث كانت بيروت ولاتزال تطبع للعالم العربي، ونحن نستمر وإن على صعيد محلي، منتصرين لثقافة الورق التي لم ينل منها التطور التكنولوجي الرقمي».

لا خطط مستقبلية لمطبعة عمشيت، لكن نصار يصر على عدم إلقاء المنديل والقبول بصمت الآلات في مطبعته وجفاف الحبر، معتبرا أن الأخير ينبض كالدماء في العرق اللبناني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد