ما وقع الثلثاء وأُلحِقت به أمس الأربعاء موجة أخرى من تفجير إسرائيل، بتدخّل تقني استخباري عالٍ، أجهزة لاسلكية في أيدي أنصار حزب الله ومحازبيه، اتسامه بطابع عمل أمني محترف محض. إلا أن سقوط العدد الكبير من الضحايا، شهداء وجرحى ناهيك بالحالات الحرجة والإصابات الدائمة، يفصح عن أن ما حدث أشبه بمعركة عسكرية تخوضها إسرائيل بلا قتال وبلا عدو في المقلب الآخر. يتجاوز القاعدة المألوفة في ثقافة الاستخبارات، المعروفة بعمليات «ما وراء خطوط العدو»، إلى محاولة تدمير البيئة القريبة من الحزب.ما آل إليه الاعتداءان الإسرائيليان المتواليان، أفضى إلى بضعة معطيات منها:
1 – تحوّل الخط الأزرق من جبهة إسناد لغزة إلى ساحة حرب تستنزف الجيش الإسرائيلي في الجانب الآخر من الحدود طوال 11 شهراً، حشد لها خمس فرق عسكرية، ناهيك بتهجير ما يزيد على 100 ألف مستوطن لن يعودوا إلى المستوطنات في المدى القريب وتدمير البنى التحتية المدنية والعسكرية الإسرائيلية، ما لم يسبق أن شهدته أي من الحروب الإسرائيلية – العربية التي دارت على أراض عربية وليس في الداخل الإسرائيلي. ليست حرباً معلنة بين حزب الله وإسرائيل على غرار حرب تموز 2006. لا يكف الحزب عن وصف وظيفتها أنها إشغالٌ، ولم تقل إسرائيل مرة أنها تخوض حرباً كتلك. لكنها المرة الأولى بعد ما يزيد على خمسة عقود تجد الدولة العبرية نفسها تخوض حرب استنزاف بعد تلك الطويلة التي خاضتها عام 1967 مع الدول الثلاث في حرب الأيام الستة، لا سيما منها مصر. حرب الاستنزاف نفسها عاودت إسرائيل خوضها عام 1973 مع سوريا. على أن من غير المؤكد لحرب الاستنزاف الحالية، والطرف الآخر فيها مقاومة وليس جيشاً نظامياً لدولة، أن تكون لها خاتمة قريبة في ظل تصاعد تسعير المواجهة.
2 – توسُّع المواجهة المفتوحة إلى أبعد من خطوط التماس والانتقال إلى العمليات الأمنية افتتحتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية في 2 كانون الثاني الفائت باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، وتوالى بعدها اغتيال قادة في الحزب في طرق تنقلاتهم في الجنوب بعيداً من خطوط التماس، وصولاً إلى محطة خطيرة باغتيال المسؤول العسكري فؤاد شكر في 30 تموز، إلى أن بلغت في اليومين المنصرمين وسيلة غير مسبوقة في النزاع هي تفجير أـجهزة الاتصالات. أكثر من مرة أكدت إسرائيل وجارتها الولايات المتحدة بأن الهجمات الامنية هذه تدخل في نطاق قواعد الاشتباك المعمول بها بين طرفيْ النزاع في الجنوب تفادياً للوصول بتسعير المواجهة إلى حرب مفتوحة.
مع أن قواعد الاشتباك النافذة منذ تفاهم نيسان عام 1996، ما قبل جلاء الجيش الاسرائيلي عن لبنان واستمرت من بعده من وراء جانبي الحدود، لا تزال نفسها عند الخط الأزرق، ويقول حزب الله وإسرائيل إنهما يلتزمانها تفادياً لحرب غير مأمونة النتائج، إلا أن توالي الهجمات الامنية، في موازاة الحرب العسكرية، لا يكتفي بتوسيع تقنيات المواجهة واستخدام أسلحتها المختلفة، بل يتوغل خارج نطاق المناطق الساخنة للحرب وهي الخط الأزرق ومزارع شبعا. في الأشهر الأخيرة وصلت إلى الضاحية الجنوبية وابتعدت إلى البقاع الشمالي. كذلك فعل حزب الله بتوجيه ضربات إلى مسافة بعيدة في الداخل الإسرائيلي. بذلك تشعبت مروحة قواعد الاشتباك بديلاً حتمياً من الحرب المفتوحة. لكنها أضحت كذلك قابلة للاجتهاد يسعى كل من طرفيْ النزاع استخدام شتى عتاده وأسلحته وعدّته دونما التكهن بما قد يؤول إليه هذا الاجتهاد. أقرب ما تكون إلى تفلّتها من الضوابط القديمة.
الآلية السائدة حالياً بما لا يقفز من فوق قواعد الاشتباك ولا يسقطها، هو تبادل إسرائيل وحزب الله الضربات الموجعة في داخل كل منهما بعيداً من خطوط التماس المقصورة عليها قواعد الاشتباك.
3 – بعد إقرار حزب الله بأن تفجيرات الثلاثاء أكبر اختراق استخباري له في حربه الطويلة مع إسرائيل، عنت هذه للجيش الإسرائيلي استعادة بعض من الاعتبار لهيبته منذ اندلاع «طوفان الأقصى» وانضمام حزب الله إليها على نحو مباشر بأن أحال شمال إسرائيل أرضاً مهجورة سوى من الفرق العسكرية الإسرائيلية.
4 – على الأهمية التي انطوى عليها اغتيال شكر كأعلى مسؤول عسكري في حزب الله وهو شكل خسارة فادحة يتطلب بعض الوقت تعويض دوره وقدراته، لتفجيرات الثلاثاء والأربعاء في الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب بُعد مختلف وآخر هو استهداف الدولة العبرية مجتمعاً برمّته أفصحت عنه الأحداث المتوالية الثلاثاء والأربعاء. استهدفت البنى التحتية البشرية للحزب هي طواقم الإنجاد والاتصال المعوّل عليها في الداخل دونما أن تكون من بين الفرق المقاتلة غير المزودة عند خطوط المواجهة أجهزة كتلك التي انفجرت. ضحايا تفجيرات اليومين المنصرمين شهداء وجرحى إلى الحالات الحرجة هم البيئة المحيطة بحزب الله في بيوتهم ومكاتبهم والمحال التجارية وفي سياراتهم وعلى دراجاتهم. هم المولجون مهمات الإغاثة والتنسيق والدفاع المدني وتأمين الخدمات ومسؤولي البلدات والقرى وما يمكن أن يُدرج في لوجستيات الجبهة. لا يُعطى هؤلاء شبكة الاتصالات السلكية المتوافرة لمقاتلي الحزب الممدودة تحت الأرض في أوسع رقعة في بيروت والجنوب تصدر منها الأوامر والقيادة.
5 – المتوقع من الكلمة التي سيدلي بها عصر اليوم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أن يعيد تأكيد ما أعلنه الحزب في بيانه الثاني الثلاثاء أنه سيرد وسيلحق بإسرائيل «القصاص العادل». على نحو مماثل لما قاله بعد اغتيال شكر، يعضد معنويات جمهوره وأنصاره ومقاتليه، كي يجزم بأن رد الحزب سيتسم بحكمة لتجنب حرب مفتوحة لا أحد يريدها ولن تقع في أي حال. هو الموقف الذي يُسمع باستمرار من مسؤولي حزب الله أنهم لن يجازفوا بخيار كهذا، إلا أن جبهة الإشغال وإسناد غزة لن تتوقف إلا بانطفاء حرب القطاع نهائياً.
نقولا ناصيف – الاخبار