يحاول لبنان الرسمي تعويضَ صورة «العاطل عن العمل» التي التصقتْ به في ما خصّ دورَه على جبهة الجنوب، حرباً أو سِلْماً، ما خلا التعاطي معه إقليمياً ودولياً كقناةٍ خلفية لتفاوضٍ وتبادُلِ رسائل «بالواسطة» مع صاحب «التحكّم والسيطرة» الفعلي أي «حزب الله»، وذلك عبر اضطلاع الحكومة بمَهمة شاقّة يشكّلها تفكيكُ ملف النزوح السوري ذات المخاطر «المثلثة الضلع»، المالية والأمنية والسياسية، والذي يُخشى أن يتحوّلَ «جاذبةَ صواعق» تضاف إلى «منطقة الأعاصير» التي اقتيدت «بلاد الأرز» إليها منذ «طوفان الأقصى».
وفي الشكل، تتيح زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس لبيروت اليوم للسلطات اللبنانية الظهورَ كمَن يدير قضيةَ النزوح من «قمرة القيادة»، في الوقت الذي تنتظر السلطات نفسها، مثلها مثل عواصم عدة في مقدّمها باريس، جواباً «أتى ولن يأتي» من «حزب الله» على ورقةٍ فرنسيةٍ وكأنها «لم تكن» بالنسبة إليه، في نسختيْها الأولى ثم الثانية، كونها تقفز فوق معادلةِ «لا نقاش قبل وقف حرب غزة» في ما خص اليوم التالي لبنانياً، كما أنها تَفترض أن الحزب في وارد تقديم تنازلاتٍ لإسرائيل على وهج تهديدها بحربٍ واسعة ما لم يلبِّ شروطها، ولو تمّ تلوين الترتيبات «القديمة – الجديدة» التي تقترحها فرنسا بـ «لَعِبٍ على الكلام»، هو الذي لا يوفّر فرصةً في الميدان لتأكيد «لا نريد الصِدام الكبير ولكن جاهزون له إذا فُرض علينا».
ورغم أن أزمةَ النزوح السوري التي تَعتمل منذ نحو 13عاماً تشكل عنواناً لتقاطُع داخلي نادر على وجوب معالجتها بعدما تحوّلت عبئاً كبيراً على البلد المثخَن بالانهيارات، ومع فروقاتٍ في ما خص بعض آليات الحلّ وسرعته ناهيك عن اعتباراتٍ تتصل بمماشاةٍ لحسابات نظام الرئيس بشار الأسد من هنا ومراعاة للمجتمع الدولي من هناك، فإنّ هذا الملف «الأخطبوطي» في جذوره ومَخارجه الممكنة، يبدو أكبر من أن يكون في متناول لبنان الرسمي لإدارته وبتّه بما يُراعي المصلحة الوطنية أولاً ويوفّق في الوقت نفسه بينها وبين عدم الانزلاق نحو سياقاتٍ من الإعادة القسرية التي تجعل بيروت تخسر الحاضنة الخارجية التي تحتاج إليها في قضايا ذات صلة بالخروج من الحفرة المالية السحيقة كما توفير «درع حماية» ديبلوماسية – سياسية من أي جنونٍ اسرائيلي إلى جانب رعاية مساراتِ ما بعد حرب غزة وأخواتها.
ويستقبل لبنان اليوم فون دير لاين وخريستودوليدس على قاعدة رؤية كان اختصرها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي خلال لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل نحو أسبوعين وتُلاقي اجتماع بروكسيل المرتقَب أواخر مايو، وتقوم على حضّ الاتحاد الأوروبي على «الإعلان عن مناطق آمنة في سورية بما يسهّل عملية إعادة النازحين إلى بلدهم، ودعمهم دولياً وأوروبياً في وطنهم وليس في لبنان»، في الوقت الذي تسعى السلطات إلى إطلاق عملية فرز للنازحين (يُقدَّر عددهم بأكثر من مليونين) وتحديد مَن تنطبق عليه صفة النزوح من عدمه، وتنظيم وجود النازحين والعمال الخاضعين لقوانين الإقامة والعمل اللبنانية، ومحاولة ترحيل الذين دخلوا بطريقة غير شرعية كما السجناء منهم، ومحاولة تفعيل مسار إعادة التوطين في بلد ثالث.
ومن المتوقع أن تعلن رئيسة المفوضية الأوروبية عن حزمة مساعدات مالية للبنان لتعزيز قدرته على تحمُّل أثقال النزوح على المجتمعات المضيفة كما البنية التحتية المهترئة للدولة، وسط ارتيابٍ من أن ما يحرّك الاتحاد الأوروبي في هذا الملف ليس إلا الخوف من موجات هجرة غير شرعية، يغض لبنان الطرف عنها، نحو القارة العجوز خصوصاً عبر قبرص التي تقع على بُعد 185 كيلومتراً.
ومعلوم أن نيقوسيا، التي اتخذت أخيراً خطوة غير مسبوقة بإرسال سفن دورية إلى المياه الدولية قبالة لبنان لوقف عمليات العبور وقالت إنها ستعلق النظر في طلبات اللجوء المقدَّمة من السوريين، تضغط على الاتحاد الأوروبي منذ أشهر لتقديم مساعدات للبنان على غرار الاتفاقات التي أبرمها التكتل مع تركيا وتونس وفي الآونة الأخيرة مع مصر.
وقد نُقل عن المتحدّث باسم الحكومة القبرصية أن «تنفيذ هذه الحزمة من المساعداتِ المرتقبة تم بمبادرة من خريستودوليدس وجمهورية قبرص، وهو دليل عملي على الدور النشط الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد الأوروبي في منطقتنا».
وفيما لا تُخْفي أوساط لبنانية الخشية من أن يكون «تمويلُ بقاء» النازحين في لبنان هو في إطار «إبرة مخدّر» جديدة للسلطات المحلية، فإن أبعاداً أكثر تعقيداً بدأت تطلّ برأسها وتنطوي على خشيةٍ في دوائر غير بعيدة من «محور الممانعة» من أن «يتوسّع» الغرب في مقاربة هذا الملف، سواء تحت عنوان محاربة الهجرة غير الشرعية وضبط الحدود (براً وبحراً) بآلياتٍ متنوّعة، لـ «النفاذ» ضِمْناً إلى ما يُعرف بخطوط إمداد حزب الله لتصبح «تحت العين» الغربية.
وفي حين يقارب «محور الممانعة» قضيةَ النزوح آخذاً في الاعتبار أن النظام السوري يُمْسك بهذه الورقة لـ «مقايضةٍ» عليها في ما خص إعادة الإعمار، هذا إذا كان يريد عودتهم أصلاً كما يتوجّس خصومه اللبنانيون، كان لافتاً في الساعات الماضية موقف للرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وهو من أشدّ المعارضين للأسد، أعلن فيه أن «لا مفرّ من مناقشة الحكومة ملف النزوح مع النظام السوري».
وقال لصحيفة «لوريان لوجور»: «إذا كانت هناك أحزاب لديها موقف معادٍ تجاه النظام السوري، ومنهم الحزب التقدمي، لكن من المستحيل أن ننكر أن سورية موجودة، وهناك أيضاً الاعتبارات الجغرافية، خصوصاً في ما يتعلق بعودة اللاجئين، والذين يجب تقسيمهم إلى فئات، إذ هناك الذين ليسوا لاجئين ويعملون في لبنان منذ زمن، وهناك الميسورون مادياً، وهناك اللاجئون السياسيون، كما النازحون الذين جاؤوا إلى لبنان بعد الدمار الهائل في سورية.
وهذه النقاط ضمّناها ورقة قمنا بصوغها وسنقدّمها إلى جميع الأطراف السياسية، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز موقف رئيس الحكومة في مؤتمر بروكسل، وهذه الورقة يجب التفاوض بشأنها مع نظام دمشق».
ورداً على سؤال رأى «أنه يمكننا تجنب التطبيع السياسي مع النظام السوري من خلال التركيز على مسألة النازحين فقط، وهي مسألة ذات طبيعة أمنية».
المصدر: الراي الكويتية