نقلاً عن صحيفة “نداء الوطن” – ريتا بولس شهوان
صراع لإبقاء الحياة في عمق المدينة التي يناهز عمرها الـ 6000
حملة إعادة تأهيل قطاع الترفيه في جبيل انطلقت
ميناء جبيل ينتظر عودة الحركةكيف تعاند مدينة جبيل الموت البطيء الذي تشهده قطاعات كثيرة في لبنان؟ كيف يمكن أن تخرج من حالة الإنهيار الذي يتّجه إليه لبنان؟ ثمّة أمل كبير بأنّ مدينة الحرف لن تقوى عليها التجربة المرّة وهي ستتمكّن من التشبث بالحياة والبقاء على قيد الحياة. المعاناة كبيرة ولكنّ تصميم أهل المدينة كبير أيضاً..
يشهد القطاع الترفيهي والسياحي في لبنان المرتبط بحركة المواطنين والأجانب تحدياتٍ يفرضها عليه شهر حزيران، وهو بداية الموسم. فالوضع الاقتصادي الصّعب الذي يُرخي بثقله على المواطنين اللّبنانيّين يستفيد منه السائح الذي يتأثّر بعوامل مستجدّة فحسب، كانقطاع البنزين وأزمة التنقّل التي تحمل عبأها عنه شركات الأجرة. لذا، نجد انتعاشاً ولو طفيفاً في السياحة المحلّية، انتعاشاً حمى مقاهي جبيل ومطاعمها وملاهيها من الإقفال التامّ. فقد بات تخطّي هذه المرحلة المصيريّة بنجاحٍ هدفاً لأصحاب المصالح في المدينة، وبات الصراع صراعاً لإبقاء الحياة في عمق المدينة التي يناهز عمرها الـ 6000 عام من الحضارة قبل الميلاد؛ ومعالمها تدل على نفسها لتكون مقصداً سياحياً لرؤساء دول وسفراء.
فجبيل، اليوم، هادئة ليست كسابق عهدها أيام المهرجانات والنشاطات العالمية الطابع؛ فعلى الرغم من جهود أصحاب المؤسسات السياحية ليعيدوا العجلة الى طبيعتها، فإنّها تصطدم بحال روّاد المراكز الترفيهية وغالبيتهم من العمّال والموظفين الذين يمكنهم التّخلّي عن رفاهية ارتياد المطاعم والمقاهي في ظلّ هذه الظروف الخانقة.
فـ”رشا” الآتية من طرابلس مثلاً تزور المدينة كلّ نهار اثنين لتعطي دروساً فيها، فتجد نفسها محكومة، في وقت فراغها، أن تختار مقهى تصرف فيه عشرين ألف ليرة فحسب ثمن كوب قهوة؛ لأنَّ يوميتها لا تتخطّى مئة ألف! وبذلك فهي تضطرّ إلى أن تُوازن بين مدخولها ومصروفها الضئيل كما هي حال كلّ أفراد القطاع التعليمي. في المقابل، يستغرب “عمار” السائح كيف يمكن أن يتحمّل اللبنانيون هذه الظروف، ويرى أنَّ الأسعار بالنسبة إليه شخصياً غير مرتفعة لامتلاكه العملة الصعبة، وكذلك “مصطفى” القادم من العراق بصحبة مجموعة تصنّف الأسعار في لبنان بأرخص مما يتداول في العراق بنسبة تتعدّى النصف. فالتباين بين ابن البلد والسائح واضح جداً حتى إنّ بعض من حاورناهم من الزبائن يقتصد في المصروف ولا يقبل أن يدفع أحد عنه الفاتورة كي لا يتكفّل هو بدوره أن يدفع عن غيره في المرة القادمة؛ فالجميع “مصروفو ع قدّو”.
خمسة زبائن خلال ساعة في أكثر من ستّة مطاعم حسب مشاهدتنا رقم ضئيل جداً بالنسبة إلى جبيل ولا يُبشّر بالخير. ويشرح الوضعَ المدير التنفيذي لمشروع “إدّه” في السوق الأثري “فادي إدّه”، فيرى إنَّ مؤشّرات شهر حزيران سلبية بسبب انقطاع البنزين، والارتفاع الإضافي لسعر الدولار، وانقطاع الموادّ… لأنَّ هذه العوامل باتت تُشكّل تحدّيات يوميّة وخصوصاً أنَّ أسعار المواد الأولية غير ثابتة. وقد وجد “فادي” حلّاً لهذه المعضلة عبر استراتيجيته العامّة التي تشمل المخاطر، ومنها عملية تسكير الشوارع لكون راتب الموظف أولوية قصوى.
سوق جبيل يصارع للبقاء
إذ يحاول مشروع “إده” جذب الرّوّاد عبر الخدمة، والمحافظة على زبائن العلامة التجارية “إدي” بعدم رفع الأسعار بشكل هائل بالمقارنة بين ما يطلبه الزبون وما نقدّمه إليه بجودة عالية أكان لحمةً، أم خضاراً او ما نتسلّمه على حدّ قوله، وبذلك تكون المعادلة قائمة على تغطية الكلفة ورضى المواطن. ويصف “إدّه” الطبيعة اللبنانية بالكنز ولا سيّما في جبيل التي هي عامل جذب وحدها راجياً من البلديّات في لبنان أن تكون الى جانب رأس المال لتجذب العدد الأكبر من رجال الأعمال ليستثمروا في مشاريع شبيهة وفق منطق لا مركزي، فيجذب لبنان السّياحة بمجمله.
ويُلحظ أنَّ أغلب المطاعم التي أقفلت أبوابها بدأت بهذه الخطوة منذ كورونا، وأخذ أصحاب بعضها، ممّن لديهم فروع في المناطق، القرار بالإقفال النهائي كـ “بروفنسيال” في جبيل؛ لأن موقع المطعم خارج السوق الأثري يجعله ينشط في المناسبات فحسب. أمّا المؤسسات السياحية الَّتي أصحابها من أهل المدينة فيجدّدون مطاعمهم ويتحضّرون لإعادة فتح أبوابها. إذ لم يترك رئيس البلدية “وسام زعرور” مطعماً أو مقهى مقفلاً إلّا دقَّ باب المالك ليُشجّعه على خطوة العودة إلى الحياة الطبيعية بتفاؤل محفّزاً هذه العودة بتسهيلات ضمن القانون. فهذا “طوني خوري” عمل على تأهيل مطعمه انطلاقاً من منطقه القائل: إِنْ أقفل مصدر رزقه فسيتفوّق عليه زملاء المصلحة. أما “ديب” الذي لم يفلح في تأجير مطعمه بعد إقفاله فيدلّنا على عدد كبير من شباب يانعين يودّون الاستثمار والاستئجار، ولكن يتراجعون القهقرى عندما يدرسون الوضع المادّي وحسابات الرّبح والخسارة. وبالمحصّلة يكون أغلب مَنْ عاد إلى العمل هم من سكّان المنطقة؛ فـ”نبيل أبو يونس”، وهو صاحب مطعم، يبحث عن المحافظة على المخزون الذي لديه؛ لأنّ كلَّ الموادّ الجديدة مكلفة حسب سعر الصرف المتداول في السّوق السّوداء، فيتّكل على الذين يعرفون “طعمة تمّن” من الزبائن بحسب قوله، لكونه من الأوائل الذين يقدّمون الـ”كريب”. وقد اختلفت الفواتير لدى صاحب المحلّ والزبون على حدّ توصيفه؛ فالربح لا يغطي التكاليف التي هي حلقة متكاملة من المصاريف إلّا إن كان هناك عدد كبير من السيّاح، وهو الأمر المفقود حالياً وبالنسبة إلى مطاعم السمك قرب سنسول جبيل، فيناشد أصحابها الدولة وضع خطّة ما لتحريك عجلة السياحة لكون الفئة التي يستهدفونها ليست من اللبنانيين الذين تقلَّصت قدراتهم الشرائية، بل عمادها السّائح الأجنبيّ الذي يُدخل الأموال الطازجة، ويشعر بعض هؤلاء أنّه مُتاجَر به من خلال المواد الأولية؛ لأنَّه مجبر على شرائها.
جلسة هادئة رغم كل شيء
ولكن حال أصحاب المقاهي تبقى أقلّ وطأة من حال المطاعم؛ فصاحب المقهى “ماهر” يخبر أنَّ عمله نسبياً بخير مشدّداً على أن الزبائن يستمرّون في طلب الكحول المستورد، وهو لا يتّكل على الكحول ليلاً فحسب، بل استحدث آلة صناعة العصير لدوام النهار منذ انتشار جائحة كورونا؛ لأنّه كان مسموحاً له أن يفتح أبواب محلّه لبيع العصير. ولذلك فالخسارة التي وقع فيها هذا القطاع في جبيل كبيرة جداً؛ إذ اقتصرت مدّة فتح أبواب المطاعم على 50 يوماً فحسب خلال عامين كاملين، ولذلك تراهم اليوم يبحثون في سبيل تعويض الخسارة عن أيّ شكل من أشكال التّعويض النّسبيّ، غير أنَّ “ربيع” يؤكّد أنه لا يمكنه رفع الأسعار بالتّوازي مع متغيرات أسعار الصرف المتبدّلة سريعاً؛ لذا جزّأ الفَرْق بين التاجر والزبون إلى حدّ ما، وهو يحسب الحال جيدة، ولكنَّ الأوضاع سرعان ما تتأزم إن حدث طارئ كهربائي أو تطلّب أيُّ عطلٍ آليّ إصلاحاً عاجلاً ما. أمّا “بسام” فكان أكثر جرأة، فبدلاً من أن يجعل ربحه يساوي قيمة سعر الكلفة مضروبةً بثلاث، اكتفى باثنتين؛ فبنظره الزبون متأكد أنَّ بضاعتنا غير مضروبة.
ويدرك رئيس البلدية “وسام زعرور” الوضع كما هو عليه، وعلى الرغم من التفاؤل الذي يتحلّى به ومن ديناميكيته في احتضان أبناء المدينة، فهو يتفهّم واقع أنَّ الملاهي والمقاهي هما آخر قطاع فتح أبوابه، وهذا ما جعله يقدم على خطوة لتشجيع الحركة في جبيل، وتشريع أبواب المؤسسات السياحية أمام الزبائن عارضاً عليهم العودة الى العمل من دون دفع بدل إشغال الأملاك العامة، التي كانت تعزّز منها البلدية مداخيلها، رأفةً بالقطاع المضروب منذ عامين، إضافة الى السماح لهم باستثمار الأرصفة لضبط كورونا بتوسيع المساحات كما أخبر “نداء الوطن”. فضغط الناس الهائل على جبيل حفّز البلديةَ على اتّخاذ قرارات لافتةٍ كإيقاف الأراكيل في المقاهي، ومنع دخول من هم دون سنّ الـ18 إلى الملاهي، وتشجيع بعض المحالّ التجارية على التحوّل إلى مقاهٍ أو مطاعم. فالإصابات التي لا تتخطّى الـ 4 إصابات في المدينة ليست رادعاً أمام الاتخام بالزبائن في نهاية الأسبوع، حتى لو شكّل ذلك عبئاً إضافياً على البلدية ألا وهو جمع النفايات، من دون أن يخفي “زعرور” أنه عانى مشكلات اقتصادية بسبب فرق سعر الصرف، وهذا أمر لم يكن متوقّعاً وخارج الموازنة، وهو ما يصعّب عليه عملية إيجاد عمال. فهذه المصاعب التي تواجه البلدية وتحتاج الى تعديلات في قانون البلديات لتتحكم بالصرف لم تمنعها من رفع مستوى الحركة في المدينة عبر معارض ثقافية من دون أي مقابل، معارض تبادر إليها جمعيات عالمية عبر البلدية، وهو ما ينعكس إيجاباً على حركة المقاهي لتكون استراحة للزوّار، إضافةً إلى ما يوفّره فتح المجال لمشاهدة غروب الشمس فوق شاطئ البحصة من تنشيط للحركة الاقتصاديَّة والسّياحيّة.
نداء الوطن