المشهد اللبناني على حاله من المراوحة في مربّع الفراغ على كل المستويات، ولا شيء في الأفق يؤشر إلى إمكان الخروج منه في المدى المنظور. فالملف الرئاسي معلّق على استفاقة سياسية تدفع به الى الحسم الإيجابي وانتخاب رئيس للجمهورية، فيما هذه الإستفاقة مستحيلة في ظلّ عقليات سياسية تتناسل من بعضها البعض تعقيدات محبطة لكلّ محاولات كسر حلقة التعطيل. والملف الاقتصادي والمالي حدّث ولا حرج عن انفلاته وتفاقم أعبائه الحياتية والمعيشية على المواطنين، مع وضع حكومي قاصر على الحدّ الأدنى من المعالجات وحتى المسكنات. واما الملف الأمني فبشقّه الداخلي، يدقّ ناقوس الخطر من فوضى شاملة، يفاقمها ارتفاع معدلات الجريمة على أنواعها، وفلتان النازحين السوريين. وبشقه الجنوبي، يشكّل تصاعد المواجهات على الجبهة الحدودية بين «حزب الله» والجيش الاسرائيلي، مبعثاً للقلق والخوف من تدحرج هذه الجبهة الى ما هو أخطر وأدهى.
الى ما بعد غزة
الثابت في هذا المشهد، هو جمود هذه الملفات أمام الأبواب المقفلة، والمسلّم به لدى مختلف الأوساط السياسية والمسؤولة، مرهون على كلمة سرّ تفتح تلك الابواب، فيما كلمة السّر هذه مؤجّلة إلى ما بعد حرب غزّة، وخصوصاً بعد المحاولات الفاشلة لفصل المسارين الرئاسي والأمني عن بعضهما البعض. وكذلك محاولات فصل المواجهات الحدودية عن الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة.
أمام هذه الصورة، وكما يقول مرجع سياسي معني بكلا المسارين الرئاسي والجنوبي لـ«الجمهورية: «شئنا أم أبينا كل الامور باتت مرتبطة بمسار الحرب في غزة، وعلى ما هو واضح فإنّ فترة انتظار انتهاء الحرب ستطول، ربما لأسابيع او لأشهر، ومن الآن وحتى ذلك الحين، جلّ ما يمكن أن نفعله هو اللعب في الوقت الضائع».
ورداً على سؤال حول حراك سفراء دول اللجنة الخماسية في هذه الأجواء، قال: «هم يتحرّكون، ويقولون انّهم يحاولون تضييق الفوارق بين الأطراف السياسية، ولكن حتى الآن، حيث ما زلنا مطرحنا، ولا شيء ملموساً، ولو من حيث الشكل».
ورداً على سؤال آخر، قال: «لست أماشي القائلين بأنّ اللجنة الخماسية على موقف واحد، ولا القائلين بوجود فوارق عميقة بين أعضائها في النظرة الى الملف الرئاسي، فأنا أحاكم النتيجة، فحتى الآن كلّ الحراكات التي حصلت كانت خارج صحن الحلول، بل أقول بكلّ صراحة لم نلمس وجود قاعدة صلبة يُبنى عليها للقول بإمكان حصول اختراقات تلامس الحلول المرجوة للتعقيدات القائمة».
يُشار الى انّ سفراء اللجنة الخماسية سيزورون رئيس مجلس النواب نبيه بري اليوم، لإطلاعه على خلاصة لقاءاتهم مع القوى السياسية، وصورة التحرّك المقبل للجنة، حيث أكّدت معلومات موثوقة لـ«الجمهورية» انّ سفراء «اللجنة الخماسية» سيستكملون مهمّتهم بزخم أكبر في المرحلة المقبلة، للدفع الى حوار يمهّد لتوافق على رئيس للجمهورية، ورجّحت المصادر صدور بيان مفصّل حول ذلك».
أي حوار؟
على أنّ مهمّة اللجنة في مجملها، وفق ما تقول مصادر مواكبة لحراك الخماسيّة لـ«الجمهورية»، تبقى محفوفة بالفشل المسبق، وخصوصاً انّ هذا الحوار ليس محل إجماع، فثمة تباين عميق حياله، بين قائل بجلوس الأطراف على طاولة الحوار او النقاش او التشاور وفق ما يدعو اليه الرئيس بري، يُصار خلاله إلى التوافق على اسم أو اكثر ومن ثم النزول الى مجلس النواب وانتخاب رئيس الجمهورية. وبين قائل بفتح جلسة انتخابية، وإجراء حوار ثنائي او ثلاثي بين دوراتها، وهكذا دواليك حتى انتخاب الرئيس. وقد سبق لسفراء اللجنة الخماسية أن جرّبوا في حراكاتهم السابقة ردم الهوة بين المنطقين، ولم يتمكنوا من ذلك، فكيف لهم أن يتمكنوا من ذلك مع هذا التصلّب في المواقف، ورفض تقديم تنازلات من هذا الجانب او ذاك؟ الّا اذا كان الحوار الذي ترمي اليه «الخماسية»، حواراً برعايتها وادارتها، فهنا الأمر قد يختلف. وقبل كل ذلك ينبغي الّا نغفل السؤال التالي: هل أن في الإمكان حسم الملف الرئاسي وانتخاب رئيس للجمهورية، فيما جبهة الجنوب على توترها واشتعالها؟ والجواب بالتأكيد عند «حزب الله» وخصومه».
محاولة للفصل عن غزة
وإذا كان الملف الرئاسي في لبنان، واستقراره السياسي والأمني من أولويات الادارة الفرنسية، وفق ما اكّد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال لقائه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، الّا انّ باريس حاولت في الأيام الأخيرة قيادة تحرّك واضح لفصل ملف الجنوب اللبناني عن الحرب الدائرة في غزة، ومحاولة تسويق حل سياسي مبني على الورقة الفرنسية التي قدّمها وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه.
وإذا كانت المعلومات من باريس تفيد بأنّ الطرح الفرنسي المتجدد، يلحظ بعض التعديلات، على ان تشهد الفترة المقبلة زيارة جديدة في إطارها، للموفد الفرنسي جان ايف لودريان الى بيروت، الّا انّ مصادر سياسية اكّدت لـ«الجمهورية» الرغبة الفرنسية في تبريد جبهة الجنوب اللبناني، وهي تتناغم بذلك مع الموقف الاميركي الذي يشدّ في هذا الاتجاه، (ثمة حديث عن زيارة وشيكة للوسيط الاميركي آموس هوكشتاين الى بيروت)، إلّا انّ الرغبة لا تكفي، بل ينبغي ان تقترن بإجراءات ملموسة وجدّية تراعي مصلحة لبنان بالدرجة الأولى، وخصوصاً في الجانب المتصل بالقرار 1701 والخروقات الاسرائيلية على امتداد الحدود بدءاً من نقطة الـ«B1» حتى الجزء الشمالي لبلدة الغجر وتلال كفر شوبا ومزارع شبعا التي ينص عليها هذا القرار مرتين.
وقلّلت المصادر من احتمال أن يشقّ الطرح الفرنسي الجديد والمعدّل عن الطرح السابق، طريقه الى السريان الايجابي، وردّت ذلك الى عائقين اساسيين قد يعترضان طريقه، الأول يتجلّى برفض الجانب اللبناني لأيّ طرح يقول بتجزئة تطبيق القرار 1701، او تطبيقه من جانب واحد، ولا يبت نهائياً بمجموعة النقاط على امتداد الحدود. وهذا الرفض أُبلغ مواجهةً إلى هوكشتاين في زيارته الاخيرة. واما العائق الثاني هو انّ «حزب الله» اعلن صراحة رفض قبول البحث في حل سياسي للمنطقة الحدودية قبل توقف العدوان الاسرائيلي على غزة ولبنان».
ولفتت المصادر الى انّه بمعزل عن مضمون الطرح الجديد وما إذا كان منسقاً بين الفرنسيين والاميركيين ام لا، وما اذا كان التعديل الجديد لحظ التطبيق الكامل والشامل للقرار 1701، وبت كل النقاط الخلافية، فهذا تطوّر نوعي إن حصل فعلاً. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنّ هذا الطرح لا يحاكي حلاً آنياً، بل ربما الغاية منه أن يشكّل تأسيساً لحل سياسي للمنطقة الجنوبية ما بعد انتهاء الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة.
بري
الطرح الفرنسي الجديد، عرضه ماكرون امام رئيس حكومة تصريف الاعمال، وكذلك عرضه الى جانب امور أخرى، في الاتصال الهاتفي الذي اجراه مع رئيس مجلس النواب، ووجّه اليه دعوة لزيارة باريس، الّا أنّ بري اعتذر عن عدم تمكنه من السفر التزاماً منه بعدم السفر الى خارج لبنان قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وهو في هذا الإطار اعتذر عن القيام برحلات عديدة الى الخارج، الى دول عربية وغير عربية، وكذلك عن عدم المشاركة في منتديات برلمانية دولية وايضاً اجتماعات الاتحاد البرلماني العربي.
ورداً على سؤال لـ«الجمهورية»، قال بري: «كل الجهود يجب ان تنصّب لإتمام الاستحقاق الرئاسي في اقرب وقت ممكن».
وعندما قيل له انّ ثمة من يتحدث عن مساعٍ جدّية للحسم الرئاسي في مهلة اقصاها شهر ايار المقبل، قال: «المطلوب انتخاب رئيس الجمهورية امس قبل اليوم واليوم قبل الغد».
وعمّا اذا كانت زيارته الى الخارج من شأنها أن تؤسس لحل يفضي الى انتخاب رئيس للجمهورية، قال: «في هذه الحالة، واذا ما تبدّت امامي جهود وحلول جدّية ونتائج ايجابية أذهب الى اي مكان، حتى سيراً على الاقدام».
المصدر: الجمهورية