ليست الاغتيالات من دمشق إلى جنوب لبنان سوى إشارة إلى أنّ الوضع الأمنيّ ذاهب إلى التصعيد وسط تخوّف جدّي من نجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في جرّ المنطقة إلى حرب. لكن في الكواليس الدبلوماسية وصلت معلومات إلى عدد من السفارات أنّه حتى الساعة لن تترجم التهديدات الإسرائيلية في الانزلاق إلى حرب كبرى، خصوصاً أنّ الجيش الإسرائيلي، وعلى رأسه وزير الدفاع يؤاف غالانت، ليس من دعاة هذا المسار.
كلّ ذلك لا يكفي ليطمئن اللبنانيين إلى أن لا حرب آتية. لكن تزامناً مع هذا المسار الأمنيّ المتوتّر والمتصاعد، هناك مسار سياسي مرافق له ومرتبط به بشكل مباشر يدعو إلى الاستقرار السياسي في لبنان عبر انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، على أن ينسحب هذا الاستقرار على الأمن في مرحلة لاحقة.
في شباط المقبل ستجتمع اللجنة الخماسية في المملكة العربية السعودية كما نشر “أساس” أمس، بعدما أدّت المساعي بين الممثّلين عن الدول الخمس إلى توحيد مقاربتهم للملفّ اللبناني، وهو ما سيظهر قريباً في بيروت. لذلك كلّ من الدول الخمس تقوم بالتحضير لعودتها إلى الساحة اللبنانية.
ليست الاغتيالات من الشام إلى جنوب لبنان سوى إشارة إلى أنّ الوضع الأمنيّ ذاهب إلى التصعيد وسط تخوّف جدّي من نجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في جرّ المنطقة إلى حرب
في مراقبة الحراك السعودي ما قبل وما بعد الحرب على غزة، يمكن أن تسجَّل مجموعة مفارقات قد تكون فقط في الشكل وليس في المضمون. ففي المضمون أنّ المواصفات التي وضعتها السعودية منذ بداية إعلان عودة اهتمامها بالملفّ اللبناني ثابتة لم تتغيّر. وهي تنادي برئيس لا ينتمي إلى الطبقة السياسية التي أغرقت البلاد، ويمثّل مساراً إصلاحياً، يعمل إلى جانب حكومة إصلاحية، ويحكم علاقتهما التنسيق وليس المنافسة أو المواجهات السياسية، ودائماً تحت سقف اتفاق الطائف وثوابته الأساسية.
أمّا في الشكل فيبدو واضحاً الاختلاف في المقاربة السعودية. ففي حين كانت تنأى بنفسها عن أيّ دخول مباشر في الملفّ الرئاسي بتفاصيله اللبنانية، وكان حراكها يتّسم بالدبلوماسية الصامتة التي طالما عبّرت عن مواقفها، فهي تبدو اليوم أكثر وضوحاً وتقدّماً في قيادة المسعى الدولي إلى انتخاب رئيس في لبنان.
في الواقع تتحدّث مصادر دبلوماسية عربية على أنّ هذا الاهتمام السعودي بالملفّ اللبناني ليس سوى جزء بسيط من الدور السعودي القيادي الذي يقدّر للمملكة أن تقوم به في المرحلة المقبلة “ما بعد حرب غزة”. ولا يخفى على كلّ العاملين في الكواليس السياسية أنّ السعودية تلعب دوراً أساسياً في الترتيبات التي تجرى لما بعد الحرب، سيما في إعادة إعمار غزة “بعد الإعلان عن المؤتمر العالمي لقيام دولة فلسطين عملاً بالمبادرة العربية للسلام”.
يبدو هذا الكلام بعيداً عن الواقع الآن، إلا أنّ ما أعلنته وزارة الخارجية الأميركية عن ضمانات بإعادة إعمار غزة تحت شرط إعلان دولة فلسطين، يدخل مباشرة في عمق الدور السعودي الريادي الذي سيحضر بقوة في فلسطين “التي ستستعيد عروبتها” في المرحلة المقبلة بعد معالجة الجنون الإسرائيلي الذي يعبّر عنه رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بنيامين نتانياهو. وعليه، أيّ دور سعودي في فلسطين سيكون أيضاً في لبنان وسوريا وسيعبّر عن إرادة السعودية الحديثة لمدّ جسورها إلى بلادنا.
لذلك، في اللجنة الخماسية (الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية ومصر وقطر) التي تُعنى بالشأن الرئاسي اللبناني دور ريادي للسعودية بدأ يحضّر له السفير وليد البخاري في لقاءات يعقدها مع سفراء “الخماسية” من جهة، ومع شخصيات لبنانية من جهة أخرى. وذلك تحضيراً لحراك رئاسي مقبل سيشكّل عامل ضغط كبير على القوى السياسية اللبنانية لانتخاب رئيس وفصل الرئاسة عن الجبهة الجنوبية على قاعدة أن لا مقايضة بين الرئاسة والأمن.
في حراك باريس الرئاسي هدف أساسي هو ترميم الثقة مع “الثنائي الشيعي”، وتحديداً مع الحزب، بعد مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حرب غزة في بداياتها قبل أن يعيد حساباته في مواقفه اللاحقة
يمكن الاعتراف بسهولة أنّ فرنسا عادت إلى الواجهة بفعّالية كالفريق الذي خسر في الشوط الأول وعاد بـcome back في الشوط الثاني. فباريس التي سبق أن فشلت في مقاربتها الرئاسية الأولى تعود اليوم بمقاربة موحّدة مع الدول الخمس في “اللجنة”، لكنّها تعود لتكون في واجهة هذا المسعى لتشكّل مع المملكة ثنائية في قيادة عمل الخماسية.
سفير فرنسا في لبنان هيرفيه ماغرو سبق أن اجتمع مع سفيرة أميركا المعيّنة حديثاً ليزا جونسون للبحث بالملفّ الرئاسي اللبناني، وهو ينشط باتجاه سفراء الدول الخمس في لبنان في مسعى منه إلى عقد اجتماع للسفراء لتحضير الأرضية اللبنانية بانتظار عودة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان ليقدّم مقاربة الخماسية الواضحة لانتخاب رئيس عبر دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى جلسات انتخابية مفتوحة. أمّا الموفد جان إيف لودريان فهو في المملكة، على أن يقوم بزيارات للقاهرة والدوحة للتحضير لـ”الخماسية” المفترض أن تُعقد في الرياض.
في حراك باريس الرئاسي هدف أساسي هو ترميم الثقة مع “الثنائي الشيعي”، وتحديداً مع الحزب، بعد مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حرب غزة في بداياتها قبل أن يعيد حساباته في مواقفه اللاحقة.
تزامناً مع الملفّ الأمني الذي تتوسّط فيه الولايات المتحدة عبر موفدها الرئاسي آموس هوكستين، الذي يعتبر الملفّ الأهمّ بالنسبة إلى واشنطن، تسعى الأخيرة إلى انتخاب رئيس لمواكبة تطوّرات المنطقة ليكون لبنان حاضراً في المفاوضات المقبلة.
في المعلومات أنّ هوكستين الذي اكتسب ودّ الحزب قد يكون هو نفسه ممثّلاً بلاده في “الخماسية”، في إشارة إلى أنّ واشنطن حاضرة بقوة في الاستحقاق الرئاسي ومستعجلة لإجرائه على أن يعاد تشكيل السلطة بعد الانتخاب في حكومة فاعلة لتشرف على مفاوضات تثبيت الحدود البرّية وتطبيق القرار الأممي 1701. يأتي هذا الدخول الأميركي المباشر والثقيل إلى ملفّ الاستحقاق لتأكيد ما سبق أن نشر عن فصل الرئاسة عن الأمن، بل قد تسبق الرئاسة الملفّ الأمني ضمن قاعدة اللامقايضة.
ليست باريس وحدها من خسرت في الشوط الأوّل، بل انضمّت إليها قطر في الجولة الأخيرة التي قام بها موفدها في لبنان أبو فهد جاسم آل ثاني الذي طرح أسماء رئاسية من دون التنسيق مع “الخماسية”، لا سيما مع المملكة. هذا الأمر أربك “الخماسية” فاضطرّت الدوحة إلى سحب موفدها.
في المعلومات أنّ تقويماً حصل في الدوحة عمّا اعتبرته “خطوة غير مدروسة”. واليوم عادت الدوحة إلى إجماع “الخماسية”، بعد جهود بُذلت لتوحيد الموقف. وفي حال عودة الموفد القطري إلى بيروت فلن يكون إلا تحت مظلّة “اللجنة” وبالتنسيق الدائم مع السعودية. في الأصل تلعب قطر دوراً في بيروت لما لها من تجربة في لبنان ودور في مساعدته في أزمات أمنيّة وسياسية مرّت عليه.
إقرأ أيضاً: ملفّ لبنان في البيت الأبيض: هوكستين نجم “الخماسيّة”
تأكيداً على دورها وحضورها طلبت مصر أن يحصل اجتماع “الخماسية” على أرضها. إلا أنّ ذلك لم يحصل لأنّ القاهرة لم تشكّل خليّة وتعيّن مسؤولاً عن الملفّ اللبناني، بينما في السعودية يتولّى المستشار نزار العلولا الملفّ، وفي باريس يتولّاه لودريان، وفي الدوحة يتولّاه الخليفي، وبالتالي تقرّر الاجتماع أن يحصل في السعودية. لكنّ السفير المصري في بيروت ناشط على مستوى لقاءاته مع القوى اللبنانية ومع سفراء الدول الخمس ويلعب دوراً فاعلاً لكن بصمت.
في المبدأ سيشهد شهر شباط حركة رئاسية ضاغطة، لكن لا شيء يضمن أن يترجم ذلك في التطبيق. في البلد قراءة تقول إنّ الأمن أوّلاً ولن يُنتخب أيّ رئيس قبل وضوح الخريطة الجديدة في المنطقة، سيما مع ارتفاع أسهم الحرب في لبنان… لكن شباط قد يغيّر المشهد.
جوزفين ديب – أساس